الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]أي الجهة التي ارتضاها سبحانه وتعالى.ونحن هنا في هذه الآية نرى قول الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله}. وأسلم وجهه أي أسلم اتجاهه؛ لأن الإنسان حين يكون ذاهبًا إلى قصد أو هدف أو غرض، فيكون وجهه هو المتجه؛ لأن الإنسان لا يسير بظهره. والوجه هنا- إذن- هو الاتجاه.ولماذا جاء الحق بالوجه فقط، برغم أن المؤمن يسلم مع الوجه كل الجوارح؟؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء، ولذلك جعل سبحانه السجود أضرف موقع للعبد؛ لأن القامة العالية والوجه الذي يحرص الإنسان على نظافته يسجد لله.إذن أسلم وجهه لله، أي أسلم وجهته واتجاهه للهن ومعنى {أسلم} من الإسلام، فـ {أسلم} تعني: سلّم زمام أموره لواحد. حين يسلم الإنسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه يعرف في هذا الأمر أفضل منه. ولا يسلم لمساو إلا إن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنّه صاحب حكمة وعلم ودراية عنه. فإن لم يلمس الإنسان ذلك فلن يسلم له. وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه، أليس هذا هو أفضل الأمور؟.إن الإنسان قد يسلم زمامه لإنسان آخر لأنه يظن فيه الحكمة، ولكن أيضمن أن يبقى هذا الإنسان حكيمًا؟ إنّه كإنسان هو ابن أغيار، وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له لها تكون مستعصية عليه، لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة. ولذلك قلنا: إن الإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلهًا قويًا وقادرًا وحكيمًا وعليمًا وله القيومية في كل زمان ومكان. وحين يسلم الإنسان وجهه لله فلن يصنع عملًا إلا كانت وجهته إلى الله.{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]ولماذا جاءت كلمة {محسن} هنا؟ وقد تكلم صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، ونعرف أننا آمنا بالله غيبًا، لكن عندما ندخل بالإيمان إلى مقام الإحسان، فإننا نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا. والحوار الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته وكان اسمه الحارث فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) فقال: «يا حارث عرفت فالتزم ثلاثا».ويعرف الإنسان من أهل الصلاح أنّه في لقاء دائم مع الله، لذلك يضع برنامجًا لنفسه موجزة أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه {وهو معكم أينما كنتم} إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين فيستحيي أن يعصيه.ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سأل حبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه؟ أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبدٍ مساوٍ لك.. فكيف تفعله مع الله؟!!وتتجلى العظمة في قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} لماذا إذن {ملة إبراهيم}؟ لأن القرآن يقول عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]ومعنى كونه {أُمَّةً}: أنّه الجامع لكل خصال الخير التي لا تكاد تجتمع في فرد إلا إن وزعنا الخصال في امة بأكملها؛ فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي، وهذه الصفات الخيِّرة كلها لا تجتمع في فرد واحد إلا إذا جمعناها من أمة. وأراد الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن يكون جامعًا لخير كثير فوصفه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]ويقول هنا عن ملة إبراهيم: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. والملة هي الديانة و{حنيفًا} أي «مائلا عن الباطل إلى الحق». والمعنى اللغوي لكلمة «حنيف» أنّه هو «المائل». وكان إبراهيم حنيفًا عن الباطل. ومتى تُرسل الرسل إلى الأقوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طمّ الفساد وعمّ، وحين تكون المجتمعات قادرة على إصلاح الفساد الذي فيها.. فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم، لكن إذا ما بلغ الفساد أَوْجَهُ، فالحق يرسل رسولًا. وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد، فالرسول يميل عن الفساد، بهذا يكون الميل عن الاعوجاج اعتدالا. {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فما هي حيثيات الخُلَّة؟ لأنه يتبع أفضل دين، ويسلم لله وجهه، وكان محسنًا، واتبع الملة، وكان حنيفًا، هذه هي حيثيات الخُلَّة. وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلام.لقد حدثونا أن جبريل عليه السلام قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار، فقال جبريل يا إبراهيمم: ألك حاجة؟.فقال إبراهيم: «أما إليك فلا»، فقال جبريل فاسأل اربك فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله: {يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئًا. وتلك قمة الإسلام لله. كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها؛ ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولدًا في آخر حياته، وأوضح له الحق أنه مبتليه، وكان الابتلاء غاية في الصعوبة؛ فالابن لا يموت؛ ولا يقتله أحد ولكن يقوم الأب بذبحه، فكم درجة من الابتلاء مر بها إبراهيم عليه السلام؟!وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه، ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلام: {يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام لا بالوحي المباشر. ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام. لم يقل: «افعل ما بدا لك يا أبي» ولكنه قال: {يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معًا لأمر الله.فماذا فعل الله؟: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 104- 112]ولا يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابنًا، وله فداء، ولكن رزق الله إبراهيم بابن آخر هو إسحاق. {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}.وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة {خليلًا}، ويبحثوا ما فيها من صفات، وكل الأساليب التي وردت فيها. والكلمة مأخوذة من «الخاء ولام ولام». و«الخَل»- بفتح الخاء- هو الطريق في الرمل، وهو ما نسميه في عرفنا «مدقًا»، وعادة يكون ضيقًا. وحينما يسير فيه اثنان فهما يتكاتفان إن كان بينهما ودّ عالٍ، وإن لم يكن بينهما ودّ فواحد يمشي خلف الآخر. ولذلك سموا الاثنين الذين يسيران متكاتفين «خليل» فكلاهما متخلل في الآخر أي متداخل فيه. والخليل أيضًا هو من يسد خلل صاحبه. والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلال والصفات والأخلاق. أو هو من يتخلل إليه الإنسان في مساتره، ويتخلل هو أيضًا في مساتر الإنسان. والإنسان قد يستقبل واحدًا من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو في غرفة النوم. لكن هناك من لا يستقبله إلا في الصالون أو في غرفة المكتب.{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصًا، والحب قد يُشارَك فيه، فهو سبحانه يحب واحدًا وآخر وثالثًا ورابعًا وكل المؤمنين، فهو القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]وسبحانه القائل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]وهو يعلمنا: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]ويقول لنا: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]ويقول أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]لكنه اصطفى إبراهيم خليلًا، أي لا مشاركة لأحد في مكانته، أما الحب فيعم، ولكن الخلَّة لا مشاركة فيها. ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قومه قائلًا: «أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا وإن صاحبكم خليل الله تعالى يعني نفسه».وإسماعيل صبري الشاعر المصري الذي كان أسبق من أحمد شوقي وكان شيخا للقضاة. التقط هذا المعنى من القرآن ومن الألفاظ التي دارت عليه في القرآن، ويقول:
وشاعر آخر يقول: ولكن إسماعيل صبري قال ما يفوق هذا المعنى: لقد تخللنا كأن بعضنا قد غاب في البعض الآخر. اهـ. .فوائد بلاغية: قال أبو حيان:وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع.منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالًا، وفي: فقد خسر خسرانًا، وفي: ومن أحسن وهو محسن.والتكرار في: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة في مواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: ابراهيم.والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات.والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملة ابراهيم، وفي: ما في السموات وما في الأرض.والمقابلة في: من ذكر أو أنثى.والتأكيد بالمصدر في: وعد الله حقًا.والاستعارة في: وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي: محيطًا عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته.والحذف في عدة مواضع. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {مِمَّنْ أَسْلَمَ}: متعلِّقٌ بـ {أحْسَنُ} فهي {مِنْ} الجَارَّة للمَفْضُول، و{لله} متعلِّقٌ بـ {أسْلَم}، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من {وَجْهه} وفيه نظرٌ لا يَخْفَى، {وهو مُحْسِنٌ}، حالٌ من فَاعِل {أسْلَم}.ومعنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله}: أخْلَصَ عمله للَّه، وقيل: فَوض أمْرَه إلى اللَّه، {وهو مُحْسِن} أي: مُوَحِّد.
|